إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصبحه وسلم ، أما بعد :
فإن الصلح من مظاهر يسُر الشريعة الإسلامية الغراء ، وهو مقصد من مقاصدها الظاهرة الحُسن ، وأي حاجة تدعو إلى البحث عن محاسن كتاب اسمه الصلح فهو على اسمه حقاً ، واختصاصه باسم الصلح يدل على فساد يحدث لولا هذا الصلح أو فساد توجه فدفع بالصلح .
وقد تضافرت الأدلة على مشروعية الصلح من الكتاب والسنة والإجماع والمعقول ، وهذه الأدلة منها ما هو دال على مشروعية الصلح عموماً ، وهذا كثير يصعب حصره ومنها على سبيل المثال قوله تعالى : (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً) [النساء:114] .
وقوله صلى الله عليه وسلم "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فيُنمي خيراً أو يقول خيراً" أخرجه البخاري .
ومن الأدلة ما يدل على مشروعية الصلح في الجنايات خاصة كقوله تعالى : (فمن عُفي له من أخيه شيءٌ فاتباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ) [البقرة:178] .
وقوله صلى الله عليه وسلم : "ومن قُتل له قتيل فهو بخير النظرين : إما أ، يودى أو أن يُقاد" أخرجه البخاري.
وقد أجمعت الأمة على مشروعية الصلح في الجنايات وغيرها .
لذلك اعتنى علماء الإسلام بالصلح في الجنايات في مؤلفاتهم ، فقلما يخلو كتاب من كتب الفقه من الحديث عن الصلح في الجنايات .
ومما تجدر الإشارة إليه أن الفقهاء بحثوا الصلح في الجنايات في كتابين من كتب الفقه وهما : كتاب الصلح ،وكتاب الجنايات ، ولم يفردوه في كتاب أو باب مستقل إلا ما كان من صنيع السرخسي ـ رحمه الله ـ في (مبسوطه) فقد أفرد الصلح في الجنايات بباب مستقل ، ثم إن بعض الفقهاء لم يتكلم عن الصلح في الجنايات تفصيلاً ، بل تكلم عن العفو ، ثم أحال قضايا الصلح ومسائله على العفو كما فعل الكاساني ـ رحمه الله ـ في (بدائع الصنائع) ، وبعض الفقهاء تكلم عن العفو والصلح جميعاً في مكان واحد ومزج أحكامها .
والبحث في الصلح في باب الجنايات بحث طويل ، وذلك لتعدد الجنايات وتنوعها ، فهناك جناية العمد وجناية شبه العمد وجناية الخطأ ، وهناك جناية على النفس وجناية على ما دونها من الأطراف والمنافع والشجاج والجروح ، ومع ذلك فهو باب من أبواب الفقه معهم يتعين معرفته خصوصاً على رجال القضاء .
لذلك أحببت أن أشارك في مجلة العدل الغراء بالبحث في الصلح في باب الجنايات ، وسأتحدث عن الصلح في الجناية على النفس وما دونها عمداً تمشياً مع خطة المجلة ، وأملي أن أُتبعه مستقبلاً بما ييسر المولى جل وعلا إخراجه من الصلح في باب القصاص ، وفي جناية الخطأ فهي جديرة بالبحث ، فإن يسر الله لي ذلك فذلك فضل الله وكرمه ، وإن كانت الأخرى ففي الميدان رجاله ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وهو سبحانه ولي التوفيق .