مجلة العدل


القيم وعلاقتها بالسياسة الجنائية./ د. جلال الدين محمد صالح طباعة

د. جلال الدين محمد صالح [عضو هيئة التدريس بجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية ]

      ما من مجتمع إلا وله قيم نابعة من خصوصياته الثقافية، يجلها ويهتدي بها في حياته، وتكون لها آثار في رقيه الحضاري، وتقدمه المادي، واستقراره الأمني، بقدر ما تشتمل عليه من خصال نافعة.

      والتشريع بصفة عامة هو أحد مظاهر هذه القيم، فما من أمة إلا وتصوغ تشريعها طبقا لما تملي به قيمها؛ ليعكس ذاتيتها، ويبرز خاصيتها، من بين بقية الأمم، ولتستلهم منه وجودها الحقيقي، والوحي وحده مصدر قيم الأمة الإسلامية، وصياغة تشريعاتها.

     وتختفي الأمم والشعوب عن مسرح التأثير الحضاري في دنيا الوجود الإنساني حين تلقي قيمها جانبا، منسلخة عنها، ومتجردة منها، لتتماهى وتفنى في قيم أخرى، لا علاقة لها بها، وهذا هو عين الإنحطاط الحضاري، والتخلف الثقافي، والانتكاسة الكبرى في الحياة، متى ما بدت أماراته كانت نذير شؤم، لا بد من تداركه بالمعالجة، وتعقبه بالتقويم.

      السياسة الجنائية - بحكم أنها جانب من التشريع الذي يرسم للناس ما ينبغي عليهم فعله أو اجتنابه في مسار علاقاتهم الحياتية - لا بد أن تكون وثيقة الصلة بالقيم التي يعزها المجتمع، تنطلق منها في المنع، والتجريم، والعقوبة، وتجعلها في الوقت ذاته محل حمايتها، وغاية مقصدها، حفظا لمصالح الحياة الضرورية، والحاجية، والتحسينية.

      ولأن مشارب الناس العقدية، ومآربهم الحياتية تختلف من فئة لأخرى، فإن تشريعاتهم الجنائية أيضا تبع لتعدد نحلهم، وتباين مللهم، وتمايز مآربهم، لهذا اختلفت في مصادرها، ومقاصدها، وعقوباتها، وتجريماتها.

      والدين - أيا كان - إلهيا لا تحريف فيه ولا تبديل، أو طرأ عليه التحريف فمزجه بشيء من إضافات البشر، أو كان وثنيا محضا، ليس فيه من أثر السماء شيء، يعد أحد أهم مصادر القيم التي يلتفت إليها التشريع بعامة، بغية التوافق في بعضها على الأقل إن لم يكن في كلها.

      لكن منذ أن أزيح الدين عن الهيمنة الشاملة على مهمة التشريع في المجتمعات التي نفرت عنه لأسباب خاصة بها ـ ليس بالضرورة أن تكون موجودة في الإسلام ـ صار الأمر كله خالصا للسياسات الوضعية، تحلل وتحرم على وحي من قيم هي من إحداثاتها، وبهذا أصبح المجال الجنائي محكوما كغيره من المجالات بتشريع وضعي، تمثله في كثير من دول العالم، بما في ذلك بعض دول عالمنا الإسلامي، ما اصطلح على تسميته بـ(السياسة الجنائية الوضعية ).

       وللسياسة الجنائية الوضعية قيمها التي تنطلق منها، والتي تستهدفها بالحماية، لكن مقابل ذلك نرى نهضة تشريعية في عالمنا الإسلامي، تسعى إلى تجديد الدين في كل مجالات الحياة، بما في ذلك المجال الجنائي، خلافا لما عليه الغرب من عزل الدين عن الحياة.

        وفي هذا السياق طرحت السياسة الجنائية الإسلامية بكل ما تستند عليه من قيم، وما تحمل من مبادئ، وما تتميز به من معالم تشريعية، فكانت العديد من المعالجات الجنائية لكثير من القضايا الملحة، ظهرت على شكل رسائل علمية في جامعات متخصصة، وأوراق عمل نوقشت في مؤتمرات وندوات علمية، كلها تجدد قيم التشريع الجنائي الإسلامي، وتنفض عنه غبار الإهمال أو النسيان، ليعود إلى الحياة ثانية كما كان أول مرة بشيرا ونذيرا.

 

 


 
Friday, March 29, 2024 


جميع الحقوق محفوظة لـ مجلة العدل