مجلة علمية محكمة تعنى بنشر البحوث و الدراسات القضائية المعاصرة - تصدر عن وزارة العدل بالمملكة العربية السعودية

العلم بالقرينة وأثره على الأحكام القضائية

د. عمر محمود حسن أستاذ مساعد في الفقه المقارن - جامعة حلب سابقا

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فيعدّ القضاء في الإسلام من أهمِّ المزايا والدلائل على تكامل الشَّريعة الإسلاميِّة، فهو الحصن الذي يحفظ حقوق الناس، وأداة ردِّها إن سُلِبَت من أصحابها، وهو المؤشِّر الذي يدلُّ على صلاح المجتمع أو فساده. ولا جدال في أن منهج الشَّريعة الإسلاميَّة في الإثبات القضائي هو طلب البيِّنة من المدَّعي (كالشهادة والإقرار والكتابة)، فإذا تعذّرت البيّنة، أمكن الالتجاء إلى البديل وهي القرائن، ليستعان بها على إثبات الواقعة. وبناءً على ذلك فإن الشَّريعة الغرَّاء لا تحصر الأدلة في نطاقٍ محدودٍ لا يجوز للقاضي تجاوزه، فالبيِّنة المطلوبة من المدَّعي تشمل كل ما يبين الحق ويظهره. إن الفقه الإسلامي يواكب التطور الملحوظ والتقدُّم العلمي فيما يتعلق بوسائل الإثبات وتنوع القرائن. وقد ذكر الفقهاء قديماً بعض القرائن التي كانت معروفة لديهم (كالقَافة في النسب وإثبات شرب الخمر بانبعاثها من فم المتهم وغيرها). إلا أن التقدُّم العلمي الحديث استطاع أن يتوصّل إلى أنواعٍ جديدةٍ من القرائن (كفحص البصمة الوراثية، وتحليل بصمات الأصابع، وتحليل الدم للكشف عن تعاطي المخدرات والخمور، وغيرها) مما يعرف بالقرائن العلميّة المعاصرة. وبما أنَّ القاضي مُنَصَّبٌ من أجل إقامة العدل ورفع الظلم، فإنه عند تعذّر البيِّنة، يمكن للقاضي أن يستند إلى هذه القرائن الطبية، وخاصة إذا كانت هي الوسيلة الوحيدة للإثبات، وذلك عندما يقوم الجاني بإخفاء معالم الجريمة، ويواريها عن الأنظار. فيتعيَّن على القاضي في هذه الحالة أن يستعين بالمحلِّلين والمتخصِّصين بفحص القرائن الطبية، لاستشارتهم والأخذ بنتائج تقاريرهم في إثبات الواقعة، والكشف عن هوية الجاني، لكن مع الحيطة عند الأخذ بها من قبل المستخرجين لهذه القرائن، فإنها بمقدار ما تكون تقدُّماً وتطوُّراً علميَّاً بمقدار ما يمكن تزويرها والتلاعب بها. وذلك يتطلب أمرين: الأول: أن يتمتّع القاضي بالذكاء والفطنة والدَّهاء، مما يؤهله لتولي هذا المنصب. الثاني: أن يكون المحلّل والمتخصّص بفحص القرائن الطبية من أهل الخبرة والمعرفة، وأن يكون من أهل الصدق والأمانة.