مجلة علمية محكمة تعنى بنشر البحوث و الدراسات القضائية المعاصرة - تصدر عن وزارة العدل بالمملكة العربية السعودية

كيف يصاغ حكم النقض

د. حسن بن أحمد الحمادي رئيس المكتب الفني للمحكمة الاتحاديةالعليا

من أظهر دلائل تحضر المجتمعات المدنية، ورقيها، وأبرز معالم نهضتها المدنية، وتطورها؛ هو أن يكون مرفق القضاء في مملكتها، مستقلا راسخا بذاته، ومنظما مكينا في جوانبه، ومحترما مقدرا بنفسه؛ ذلك بأن القضاء : أكسير الحياة؛ لكن حينما يثق المكلفون بعدله، ويطمأنون في حماه، ويركنون إلى جانبه، ويعلمون علم اليقين لا زعزعة فيه : أن مراكزهم القانونية يصونها إذا اعتدى عليها معتد آثم، أو نازعهم في حقوقهم منازع مبطل؛ بيد أن هذه الثقة الغالية من أفراد المجتمع العصري في هذا المرفق العام، لن يناله قضاء الدولة، وهذا الاحترام البالغ من الخصوم لن يكتسبه القضاة المبجلون، ما لم يطالع المكلفون أسباب الأحكام القضائية، وحيثياتها الحجاجية، وتعليلاتها الاستدلالية المنطقية، التي تصدر في الدعاوى مطالعة جلية متبصرة، لتبين أحوال إنتاجها، وتفهم بلاغة صناعتها، ومعرفة تعاملها مع النصوص التشريعية، وتعقل وسائل حِجَاجِهَا - لأنهم المتلقون لهذا المنتج القضائي، والخطاب الحجاجي، والمستقبلون لحيثياته، والمقصودون من صدوره، والمتفاعلون مع قضائه، والمؤولون له أسبابا ومنطوقا - ويفحصوا مدوناتها القانونية والواقعية في المنازعة فحصا متقنا، ليس قراءة بصرية خاطفة مجردة، بل قراءة فهم بالبصر والبصيرة، والعقل والقلب - وكيف ينزل القضاء النصوص التشريعية العامة المجردة، على ما أخبر به الواقع المشخص المعين المنتج في الدعوى، بطريقة استدلالية حجاجية تداولية، كأنها مناظرة بين خصمين، يسعى كل منهما لإثبات حقه، تحاورهما محكمة الموضوع محاورة تستخلص من تحاججهما المتعارض، وتستنبط من جدالهما المتضاد، صحة الواقع من خلال تفهم سياقه الزماني والمكاني إبان صياغة حدوثه، حتى يتبين المركز القانوني لمن تلحقهم من المكلفين في المجتمع المدني آثار الواقعة المتنازع فيها بعد تمامها، ويقول كلمة الحق في القضية، ويصدع بها، ويبدع فصل الخطاب في الواقعة بين يديه، ويشنف بها آذانهم (1).